فيلم العراب بعد 50 عاما: تحفة سينمائية شوهها الربح

صدر فيلم العراب (The Godfather) قبل 50 عاما. وما يزال الفيلم تحفة فنية حتى يومنا هذا، حيث يصور ببراعة المنطق القاسي للرأسمالية. لكن الجزء الثالث من ثلاثية كوبولا يكشف التأثير المشؤوم الذي يمارسه دافع الربح على السينما.

[Source]

وكما أشار الراحل ستيف جونز خلال عرضه عن الماركسية والسينما خلال مهرجان الثورة 2021، فإن السينما فريدة من نوعها، من حيث أنها شكل من أشكال الفن ووسيلة للترفيه الجماهيري.

في هذا الصدد، يعتبر فيلم العراب، للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، علامة فارقة في عالم صناعة الأفلام.

إن هذا الفيلم الكلاسيكي الخالد، المستند إلى رواية تحمل نفس الاسم لماريو بوزو، ما يزال يعتبر على نطاق واسع أعظم فيلم تم إنتاجه على الإطلاق. ما زال يشكل ذروة السينما الحديثة، بعد خمسة عقود على إصداره لأول مرة.

كما أن جزأه الثاني الذي صدر بعد الأول بعامين، في عام 1974، يعتبر كذلك تحفة فنية.

إن الشعبية المستمرة لتلك الأفلام تعود في جزء كبير منها لكون قصة بوزو عن عائلة كورليوني هي “كناية عن الرأسمالية في أمريكا”، على حد تعبير المخرج فرانسيس فورد كوبولا.

تلقى هذه الأفلام صدى بين الناس لأننا من خلال الحديث عن العصابات الإيطالية-الأمريكية، نرى بوعي أو بغير وعي، قصة تحتوي على موضوعات مألوفة من حياتنا اليومية.

القسوة

تصور هذه الأفلام ببراعة كيف أنه من أجل الوصول إلى القمة، يضطر كل من فيتو (مارلون براندو / روبرت دي نيرو) ومايكل كورليوني (آل باتشينو) -اللذان كانا في البداية شخصيتين نزيهة وبريئة- إلى أن يتغيرا. كلاهما أصبح قاسيا تجاه كل المنافسين؛ وحتى تجاه عائلته في حالة مايكل.

قصة مايكل، على وجه الخصوص، هي قصة تظهر الآثار المدمرة للجشع والمنافسة الشرسة؛ وكيف يؤدي السعي وراء الربح إلى تغيير الشخص بشكل كامل. حيث قام بتخفيض رتبة أحد إخوته، توم هاغن (روبرت دوفال)؛ وكيف يكذب مرارا وتكرارا على أخته وزوجته؛ ويقتل أخا آخر… كل ذلك لحماية مصالحه التجارية والاستمرار في الصعود.

يصور هذا بوضوح كيف أنه في ظل الرأسمالية “يتم تقليص العلاقة الأسرية إلى مجرد علاقة مالية”، كما قال ماركس وإنجلز، دون مساحة للعاطفة أو الولاء.

وتُظهر هذه الأفلام أيضا كيف تؤدي هذه الدينامية في النهاية إلى الاغتراب والعزلة. وينتهي الجزء الثاني بمايكل جالسا بمفرده، يتذكر زمنا أبسط عندما كانت عائلته ما تزال مجتمعة، وبذلك يختتم قصة شهدت الانهيار الكامل لزواجه، ومقتل شقيقه بناء على أمر منه.

تحكي نهاية الجزء الثالث قصة أوبرا مأساوية، حيث تنهي محاولة اغتيال مايكل حياة ابنته ماري (صوفيا كوبولا) التي حاول إبعادها عن مشاريعه المشبوهة.

تظهر الأجزاء الثلاثة أيضا أن النظام الرأسمالي كله فاسد. يظهر السياسيون ورجال الشرطة والقضاة على أنهم أناس فاسدون، ملتزمون بالاغتناء الشخصي وليس بمبادئ العدالة والديمقراطية. كما يتم تصوير المصرفيين ورجال الأعمال ورجال الدين على أنهم فاسدون أيضا.

في الواقع، سواء تعلق الأمر بسيناتور أمريكي يحاول ابتزاز عائلة كورليوني، أو بمسؤولين في مصرف الفاتيكان وأباطرة العقارات يحاولون خداعهم، فإن الشخصيات التي يُفترض أنها “شرعية” غالبا ما تكون أكثر قسوة ومكرا من رجال العصابات أنفسهم.

هوليوود الجديدة

كان الجزء الأول في ثلاثية العراب نتاج حركة “هوليود الجديدة” (“New Hollywood” movement) التي أثرت على صناعة السينما الأمريكية في منتصف الستينيات إلى الثمانينيات. وهذه ليست مصادفة.

في بداية ذلك العصر كانت استوديوهات هوليوود في وضع ضعيف، وذلك لعدة أسباب.

فأولا، شهدت قضية باراماونت (Paramount case)، لعام 1948، حكم المحكمة العليا الأمريكية بأن استوديوهات الأفلام لا يمكنها امتلاك دور سينما خاصة بها، أو منع عرض أفلامها في دور السينما التي لا تمتلكها. وقد أدى ذلك إلى إضعاف موقفها الاحتكاري في السوق.

وفي الوقت نفسه كان التلفزيون قد أصبح أيضا أكثر انتشارا في تلك الفترة. أدت القدرة على الوصول إلى الترفيه دون مغادرة غرفة المعيشة المريحة إلى تضاؤل ​​جمهور السينما.

كان هذا بشكل خاص بسبب إنتاجات استوديوهات هوليوود القديمة، والتي أصبحت مبتذلة بشكل متزايد وفشلت في تحقيق صدى بين الأجيال الشابة.

وبحلول الستينيات من القرن الماضي، كانت استوديوهات هوليوود الكبرى تخسر الأموال، ولم تتمكن إنتاجاتها من التنافس مع الأفلام الأوروبية واليابانية، مما جعل أفلام هوليوود القديمة تبدو متجاوزة.

بسبب موقف الضعف واليأس هذا، أعطت استوديوهات هوليوود السيطرة الإبداعية للمخرجين. هذه الحرية التي مُنحت للمخرجين سمحت لهم بالمجازفة. وقد أخذت ابتكاراتهم السينما في اتجاهات جديدة وإلى آفاق جديدة.

أدى نجاح أفلام تلك الحقبة -مثل فيلم “سائق التاكسي” (Taxi Driver) لمارتن سكورسيزي وفيلم “صائد الغزلان” (The Deer Hunter) لمايكل سيمينو- إلى زيادة قوة المخرجين الذين كانوا يقودون حركة هوليوود الجديدة.

كانت الاستوديوهات، الحريصة على استمرار تدفق الأموال، سعيدة بالموافقة على الطلبات المتزايدة لهؤلاء المخرجين. بل لقد قام المنتجون، في بعض الحالات، بكتابة شيك على بياض لهم. عندما بدأت أفلام مثل فيلم نيويورك، نيويورك لسكورسيزي وفيلم بوابة السماء (Heaven’s Gate) لسيمينو بالتراجع، جعل ذلك الاستوديوهات تترنح.

لذلك بدأت الاستوديوهات في استعادة سيطرتها. في غضون ذلك أرست التطورات المبتكرة في حقبة هوليوود الجديدة، واستعادة السينما للشعبية، الأساس لعصر “الفيلم الرائج”، الذي اعتبره مديرو الاستوديوهات استثمارا أكثر أمانا، وأكثر ربحية.

بقرة حلوب

في ظل الرأسمالية تعد القيمة الفنية للفيلم عاملا ثانويا من وجهة نظر لاحتكارات الكبرى التي تتحكم في إنتاج وتوزيع الأفلام. إنهم يركزون بشكل كامل على إنتاج الترفيه الجماعي، أي الصور المتحركة التي تعمل كسلع، مع وجود سوق ضخمة محتملة.

اعتبر كل من فرانسيس فورد كوبولا وماريو بوزو أن قصة العراب ستختتم بالجزء الثاني. لكن كوبولا، مثله مثل سكورسيزي وسيمينو، كان مسؤولا أيضا عن واحدة من الإخفاقات العظيمة في حقبة هوليود الجديدة بفيلم “واحد من القلب” (One from the Heart).

تسبب هذا الفشل في صعوبات مالية ضخمة لكوبولا، مما اضطره لقبول عرض إخراج جزء ثالث من شركة الإنتاج باراماونت، التي رأت في العراب أنه البقرة الحلوب المثالية في عصر الأفلام الرائجة.

وبسبب مشاكل كوبولا المالية كان إنتاج الجزء الثالث خاضعا بالكامل لشروط شركة باراماونت. كان كوبولا يريد أن يكون الفيلم بمثابة خاتمة، لكن المنتجين أصروا على أنه يجب تسويقه باعتباره جزءا آخر في الثلاثية.

أراد كوبولا ستة أشهر لكتابة السيناريو، لكن بدلا من ذلك مُنح سنة لكتابة الفيلم وإخراجه، وألا تكون مدته أقل من 140 دقيقة. كما أن كوبولا طلب ستة ملايين دولار لأداء أجور الكاتب والمنتج والمخرج، لكنه حصل بدلا من ذلك على مليون دولار فقط كجزء من ميزانية خاضعة لرقابة صارمة.

كانت لقيود الوقت والميزانية تأثيرات غير مباشرة، لا سيما من حيث اختيار الممثلين. في البداية تم اختيار جوليا روبرتس لتلعب دور ماري، لكن الممثلة كان لديها تضارب في المواعيد، فتم استبدالها بوينونا ريدر، التي اضطرت لاحقا إلى الانسحاب بسبب الإرهاق، حيث كانت قد أكملت للتو فيلما آخر.

وبدلا من الانتظار حتى تتوفر الممثلة المناسبة، اضطر كوبولا إلى المضي قدما وتوظيف ابنته -صوفيا (التي صارت الآن مخرجة مشهورة)- لتلعب دور ماري، في أداء تم انتقاده على نطاق واسع.

وبينما فاز كوبولا بالمواجهة التي خاضها مع آل باتشينو بسبب أجره، فإن عدم القدرة على إيجاد المزيد من المال لروبرت دوفال، فرض عليه إلغاء شخصية توم هاغن -الذي هو شخصية رئيسية- من النص.

وفي سياق اندفاع شركة باراماونت لإصدار الفيلم في مناسبة أعياد الميلاد لعام 1990 -التي تعتبر أكثر الأوقات ربحية في العام لدور السينما- تسببت في النهاية إلى أن المنتج النهائي جاء فيلما دون المستوى المطلوب، مع مشاهد مرتبكة وغير ملائمة، وسيناريو غير متقن. تسبب ذلك في تشويه العراب الذي كانت باراماونت تقدره كثيرا.

المفارقة هي أنه لو توفر المزيد من الحرية الإبداعية والمزيد من الوقت، لكان من الممكن إنتاج الجزء الثالث -الذي يحتوي على بذور أفكار عظيمة في بعض اللقطات- بنفس مستوى الجزأين الأول والثاني. لكن باراماونت، في سعيها قصير النظر إلى الربح، دمرت ما كان لديها بالفعل.

عائق

تظهر لنا ثلاثية العراب كيف تغيرنا الرأسمالية وتتسبب في توتر علاقاتنا. وكيف أن المؤسسات الإجرامية و”الشرعية” غالبا ما تكون مترابطة وأنها سيئة مثل بعضها البعض.

لكن الأهم من ذلك هو أن نهاية هذه السلسلة، بعد إظهارها القدرة الفنية للسينما، توضح بجلاء كيف أصبحت الرأسمالية أكبر عائق في طريق تحقيق الإمكانات الفنية للإنسانية.

تتشبث الشركات الاحتكارية، مثل باراماونت، بنموذج الفيلم الرائج، من خلال إحياء الأفلام التي ماتت منذ فترة طويلة، وذلك في محاولة ضمان عائد آمن لاستثماراتها، بدلا من المخاطرة بقصص إبداعية جديدة غير مضمونة وغير مربحة.

لكن وبدلا من أن تبث حياة جديدة في تلك الأفلام، كانت نتيجة تلفيق إضافات لأعمال موجودة بالفعل هي خلق وحش فرانكشتاين مرعب. الشيء الذي هو بمثابة تخريب ثقافي.

وفي المقابل عندما تخلصت السينما من قيود الإنتاج السلعي بعد الثورة الروسية عام 1917، استخدمت أفلام فيرتوف وأيزنشتاين وبودوفكين وآخرين تقنيات مبتكرة جديدة لنقل السينما إلى آفاق لم يسبق لها مثيل.

الاستنتاج واضح: يجب تخليص صناعة السينما من أيدي القطاع الخاص وإدارتها لمصلحة المجتمع، وليس الربح، من أجل تحرير الإمكانات الفنية والإبداعية للإنسانية من قيود الرأسمالية، وبث حياة جديدة في السينما.