هيرونيموس بوش وفن احتضار الفيودالية

يعتبر هيرونيموس بوش واحدا من أبرز الرسامين وأكثرهم أصالة في كل العصور. رسم أعماله قبل خمسمائة عام، لكنها ما تزال تبدو معاصرة بشكل مدهش، وتستبق السريالية. يمثل فنه فن عالم في حالة اضطراب، عالم مزقته تيارات متناقضة، عالم انطفأ فيه نور العقل وسيطرت عليه الغرائز الحيوانية. عالم الرعب والعنف والطاعون، أو باختصار: عالم يشبه عالمنا اليوم، خاصة مع انتشار الوباء الحالي. يدرس آلان وودز في هذا المقال هيرونيموس بوش من وجهة نظر المادية التاريخية. وكان المقال قد نشر في الأصل بتاريخ 23 دجنبر 2010.


[Source]

لا نعرف سوى القليل عن حياة الرجل الذي نعرفه باسم هيرونيموس بوش. بل حتى الاسم ليس اسمه، بل اللقب المستعار الذي كان يوقع به أعماله. كان اسمه الحقيقي هو جيروين أنتونيزون فان أكين، وقد ولد حوالي 1450، في المدينة التجارية الهولندية المزدهرة، سيرتوخيمبوس، بالقرب من الحدود الألمانية. كانت مدينة مزدهرة يبلغ عدد سكانها حوالي 25.000 نسمة. كان النسيج أهم صناعة فيها، لكنها كانت معروفة أيضا بصناعة الأرغن (آلة موسيقية)، وصناعة الأجراس، وصناعة الطابعات، وصناعة السكاكين والأسلحة والمسامير والدبابيس. وكان حوالي 90% من السكان يشتغلون في الفلاحة.

عاش بوش خلال الفترة التي أطلق عليها هويزينجا[1] اسم فترة اضمحلال العصور الوسطى. وتزامنت مع بداية تلك الصحوة الثقافية العظيمة التي نسميها عصر النهضة. ازدهرت الاكتشافات والبحوث العلمية في جو من الفضول الفكري. وخلف مظاهر المواكب الدينية والحج والتقوى، كان الناس قد صاروا أكثر تشككا تجاه الكنيسة وكانت لديهم شكوك حول صحة وقوف الله وراء ترتيب الأشياء. وبفضل اختراع المطبعة انتشر التعليم بين فئات واسعة من الناس.

كانت تلك نقطة تحول رئيسية في التاريخ. كانت تلك فترة بدأت فيها الرأسمالية تقوض أسس الإقطاع، كما أوضح ماركس وإنجلز:

«من أقنان العصور الوسطى نشأ سكان أولى البلدات. ومن سكان البلدات هؤلاء تكونت العناصر الأولى للبرجوازية.

لقد فتح اكتشاف أمريكا والمرور عبر رأس الرجاء الصالح، أرضية جديدة للبرجوازية الصاعدة. إن أسواق الهند الشرقية والصين واستعمار أمريكا والتجارة مع المستعمرات، وزيادة وسائل التبادل والسلع بشكل عام، أعطت للتجارة والملاحة والصناعة، دفعة لم يسبق لها مثيل، وأعطت، بالتالي، تطورا سريعا للعنصر الثوري داخل المجتمع الإقطاعي المتداعي.

لم يعد نمط الاستثمار الإقطاعي في الصناعة، الذي كان الإنتاج الصناعي فيه محتكرا من قبل طوائف حرفية مغلقة، كافيا لسد الحاجات المتنامية للأسواق الجديدة، فحل نظام المانيفاكتورة محله، فتم دفع أصحاب الورشات الحرفية جانبا من طرف أصحاب المانيفاكتورات البرجوازيين المتوسطين؛ وأخلى تقسيم العمل بين الطوائف الحرفية المختلفة المكان أمام تقسيم العمل داخل الورشة الواحدة». (البيان الشيوعي. برجوازيون وبروليتاريون)

يعود ازدهار سيرتوخيمبوس إلى إدخال الأساليب الرأسمالية. خلال العصور الوسطى كان تنظيم جميع الأنشطة الحرفية يتم من قبل الطوائف الحرفية. لكن خلال الفترة التي نناقشها كان أرباب العمل قد أدخلوا أساليب إنتاج جديدة. تمكن أولئك الذين نجحوا من تحقيق أرباح أكثر من المعلمين التقليديين لمختلف الحرف اليدوية، وجمعوا ثروات كبيرة. تحالف الحكام الأرستقراطيون في هولندا مع البرجوازية وأخذوا حصتهم من أرباح نمط الإنتاج الرأسمالي الجديد. لكن الطوائف الحرفية قاومت التغييرات التي هددتهم بالدمار، حتى كاد الصراع بين هذه المصالح المتضاربة أن يتحول، في بعض الأحيان، إلى حرب أهلية.

لم يتم اكتشاف بوش إلا خلال القرن العشرين، بعد أن عانى من النسيان لما يقرب من ثلاثة قرون. وهذا ليس صدفة. لم تستطع الأجيال السابقة فهم ذلك الفن الغريب. إنه فن عالم في حالة اضطراب، مزقته تيارات متناقضة: عالم انطفأ فيه نور العقل وسيطرت عليه الغرائز الحيوانية. عالم رعب وعنف، كابوس حقيقي، أي باختصار: عالم يشبه كثيرا عالمنا الحالي.

فترة انتقالية

على الرغم من أن أعمال بوش تعود لمرحلة تبتعد عن عالمنا المعاصر بأكثر من خمسمائة عام، فإنها قادرة على أن تقول لنا أكثر مما يمكن أن تقوله لنا الكثير من أعمال الفن التي تنتج اليوم. إنها أكثر صلة بالعالم الذي نعيش فيه. لهذا الفن جمال غريب ورائع، لكنه يبدو مفتقرا للمنطق. إنه يتحدى العقل البشري في كل خطوة. الواقع فيه يقف على رأسه. تواجهنا فيه صور لا تصدق، وبسبب كونها مناقضة لرؤيتنا الطبيعية للعالم، تجعلنا نشعر بالدوار. وهنا تأتي عبارة هيجل لتصدمنا بكل قوة: “المعقول يصير غير معقول”.

الغرابة هي جوهر هذا الفن. إنه انعكاس لعالم لم يعد منسجما مع نفسه، عالم ممزق على كل المستويات. حيث لم تعد الأرض صلبة تحت الأقدام. الشيء الصلب يتحول إلى سائل والعكس بالعكس. حتى الجبال في لوحة “حديقة المسرات الأرضية” تحولت إلى نباتات وحشية تتفتح بنضج غير طبيعي. كل شيء يتغير إلى نقيضه، أو، على حد تعبير هيراكليتس: “كل شيء يكون ولا يكون، لأن كل شيء في حالة تدفق مستمر”.

من وجهة نظر الأسلوب، لا يبدو عمل بوش مشابها لفن العصور الوسطى أو لفن عصر النهضة. على الرغم من وجود عناصر من هذين الفنين، إلا أن فن بوش يذهلنا بكونه معاصرا لنا بشكل مذهل. الصور مثيرة للدهشة، بل إنها صادمة، التراكيب جد متناقضة وغير متوقعة، بحيث يتعين على المرء أن ينظر إلى عالم السريالية لكي يعثر على شيء يشبهها إلى حد ما. في الواقع إن جودة الرعب في تلك الصور لها تأثير أكبر بكثير مما نجده في لوحات [سلفادور] دالي: الجذوع المعذبة والساعات العرجاء.

على الرغم من طابعه الفوضوي وغير العقلاني، على ما يبدو، فإن هذا الفن تمثيل حقيقي للعالم الذي عاش فيه بوش. إنه فن فترة انتقالية: عصر أفول الإقطاع وصعود الرأسمالية. كان ذلك وقت اضطرابات وتغيرات هائلة. كان النظام الإقطاعي في حالة انحطاط لا رجعة فيه، وكانت البرجوازية في المدن في طريقها لتحدي النظام القديم والمطالبة بحقوقها.

عندما يكون نظام اجتماعي اقتصادي معين في حالة تقدم، يكون هناك شعور عام بالثقة والتفاؤل. لا أحد يشكك في النظام القائم ومُثله وأخلاقه. لكن آنذاك كان عالم العصور الوسطى القديم، وعقيدته الدينية، قد بدأ ينهار. فجأة تم إلقاء كل شيء في وعاء الانصهار. كان نظام المعتقدات الدينية الذي سيطر لآلاف السنين، منذ تفكك الإمبراطورية الرومانية، قد دخل في أزمة. وبدأ يسيطر على المجتمع جو عام من التشكيك والكلبية (Cynicism). ووجدت الاضطرابات الاجتماعية العامة انعكاسها في مزاج التشكيك في كل شيء.

ذلك عالم مجنون، عالم مريض حتى الموت ولا يمكنه أن يجد أي علاج لمرضه. إن الموضوع المسيطر على لوحة “حديقة المتع الأرضية” هو بالضبط الاشمئزاز من الإفراط في النضج. السمكة العملاقة هي رمز قضيبي واضح إلى حد ما. يتم تصوير الخطيئة (التي غالبا ما ترتبط بالجنس) عن طريق فاكهة ضخمة ولامعة، وخاصة الفراولة. إن نضجها بالذات، الذي يوحي بالانحلال الداخلي، هو ما يثير الاشمئزاز.

شهدت نهاية القرن الخامس عشر المعارك الدموية الأخيرة في حرب المائة عام وأول هجوم للأتراك. وليس من قبيل المصادفة أن الهلال التركي عنصر متكرر باستمرار في لوحات بوش. كانت حياة الناس مهددة باستمرار بالعنف العشوائي والموت. مات الملايين بسبب الطاعون، وكانت الحروب والاضطرابات المدنية شائعة. وأدى الانهيار الاجتماعي إلى انتشار وباء السرقة والنهب وانعدام القانون بشكل عام.

كانت المدن مثل سيرتوخيمبوس ممتلئة بالمشانق والسجون. في ذلك العصر، عصر العنف العشوائي الذي لا معنى له، كان الموت رفيقا دائما ومعترفا به. كانت صورته المبتسمة تظهر في كل كنيسة. وفي خلفية تلك اللوحات يكون الموت دائما موجودا، عادة على شكل هيكل عظمي. وقد اقتفى أثر هذا المذهب خليفة بوش الحقيقي الوحيد، بيتر بروغل، كما هو الحال في لوحته “انتصار الموت”.

أدى تفكك الإقطاع، الذي رافقته كل أنواع المآسي -الحروب والمجاعة والطاعون- إلى خلق كتلة كبيرة من الفقراء المتحللين طبقيا: فلاحون بلا أرض وعاهرات ومتسولون وبائعون متجولون ومتشردون وجنود مطرودون وقطاع طرق مستعدون للقتل مقابل بضع بنسات. في ألمانيا أصبح العديد من النبلاء الإقطاعيين أنفسهم قادة عصابات يعتدون على الفلاحين. ويجد كل حثالات المجتمع هؤلاء انعكاسا لهم في لوحات بوش.

الطاعون الذي أهلك أوروبا في القرن الرابع عشر، قضى على ثلث السكان على الأقل. وأعقبته مجاعة قتلت كثيرين آخرين. وما تلا ذلك كان عالما من الظلام والفوضى والاضطرابات. اعتقد الناس أن المرض سببه الشياطين وأن الطاعون كان علامة أكيدة على الغضب الإلهي. وبالنسبة لعقل العصور الوسطى، الغارق في عالم التصوف الديني والأشباح والخرافات، بدا أن نهاية العالم تقترب. كان هناك اعتقاد شائع أن نهاية العالم ستحل عام 1500. كان الجحيم قاب قوسين أو أدنى، وبالنسبة لمعظم البشرية لم يكن هناك من احتمال للخلاص.

نهاية العالم؟

كان من الواضح للجميع أن العالم القديم كان في حالة من الانحطاط السريع وغير القابل للعلاج. كان الناس تتقاذفهم تيارات متناقضة. تحطمت معتقداتهم وضاعوا في عالم بارد ولاإنساني وعدائي وغير مفهوم. إن الشعور بأن نهاية العالم قريبة شعور يميز كل فترة تاريخية تشهد دخول نظام اجتماعي اقتصادي معين في مرحلة انحطاط لا رجعة فيه. كتب بيتر بيغل:

«كان ترتيب الأشياء يتداعى عندما ولد بوش. ارتبط الأمن الوحشي للإقطاعية في اعتقاد عام بأن ترتيب الأشياء تم بأمر إلهي. فالرب العظيم شكل العالم على صورة إقطاعية، وقسم الأراضي والسلطة بين أتباعه العظماء، الباباوات والأباطرة والملوك […]»[2].

لكن، فجأة، انهارت كل تلك اليقينيات. كان الأمر كما لو أن العالم سفينة فقدت مرساتها. وكانت النتيجة هي الاضطرابات المرعبة والشكوك. وبحلول منتصف القرن الخامس عشر بدأ نظام المعتقدات القديم في الانهيار. لم يعد الناس يتطلعون إلى الكنيسة ليحصلوا على الخلاص والراحة والعزاء. وبدلا من ذلك ظهرت الخلافات الدينية بأشكال مختلفة، والتي كانت بمثابة غطاء للمعارضة الاجتماعية والسياسية.

هناك العديد من نقاط التشابه بين عالم بوش وبين عالم اليوم، لكن هناك أيضا فجوة كبيرة بينهما. ففي الوقت الحاضر، على الأقل في الغرب، تتراجع سلطة الدين بوضوح. لكن في أواخر العصور الوسطى كان الدين مهما للغاية. لذلك كان من الطبيعي أن تعبر السياسة والصراع الطبقي عن نفسيهما بأشكال دينية. كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجعل حياة الجماهير محتملة هو الأمل في الحياة الآخرة.

كان من المفترض أن تقدم الكنيسة المقدسة الراحة للفقراء والأمل في حياة أفضل وراء هذا العالم المنحط الحزين. لكن حتى الكنيسة صارت فاسدة ومنحطة كما نرى من خلال واحدة من أعظم روائع بوش. كانت تلك فترة صارت فيها قيم الزهد القديمة التي ألهمت الرواد الأوائل لحياة رهبانية مجرد ذكرى بعيدة. تنافس أسياد الكنيسة في البذخ وتجاوزوا الملوك في أسلوب حياتهم الفاخر وثرواتهم الرائعة.

كان ذلك واقعا صادما ترك أخطر الآثار على الناس آنذاك. لأنه إذا كانت هذه الحياة رهيبة، فإن العزاء الوحيد كان هو التمسك بالأمل في حياة أفضل في العالم الآخر. لكن بمجرد ما يزول هذا الاعتقاد لا يبقى سوى اليأس القاتم. أصبحت سلطة الكنيسة موضع تشكيك متزايد. ومن مظاهر التفكك والانحلال الوشيك للنظام القديم، أن الناس بدأوا في البحث عن الخلاص خارج الكنيسة في جميع أنواع الحركات الخرافية والصوفية، والتي كانت المعتقدات الدينية غير التقليدية للعديد منها ستارا لحركات اجتماعية خطيرة ومدمرة.

تميزت تلك الفترة بخروج عدد كبير من الرجال إلى الطرق، حفاة ويرتدون برقع التوبة، ويجلدون أنفسهم حتى تسيل دماؤهم. كانت الطوائف السائدة تنتظر نهاية العالم، التي كانت تتوقع بقلق حدوثها من ساعة إلى أخرى. لكن في النهاية ما حدث لم يكن نهاية العالم، بل نهاية الإقطاع فقط، وما جاء لم يكن الألفية الجديدة، بل النظام الرأسمالي فقط. لكن لا يمكن أن نتوقع منهم أن يفهموا ذلك.

أدى انحطاط المجتمع الإقطاعي وظهور الرأسمالية إلى تخمر للأفكار وأزمة إيمان تجلت في صعود تيارات دينية معارضة مثل اللولارديين وجون ويكليف في إنجلترا والهيسيين [أتباع جون هيس] في بوهيميا. كان عالما على حافة ثورة اجتماعية ودينية. ظهر العالم القديم بكونه فاسد ومتعفن حتى النخاع. عالم يتداعى في انتظار الإطاحة به. عالم لا يستحق البقاء.

إن روح تلك اللوحات هي نفس الروح التي دفعت بهؤلاء الذين يجلدون أنفسهم إلى الطرقات. إنهم مشبعون بروح الموت. كان مشهد طوائف الجلد التي تشق طريقها عبر البلدات والقرى مع صيحات فظيعة “للتوبة” يقاطعها الصراخ والآهات بينما السياط تمزق لحم ظهورهم النازفة، علامة من علامات ذلك الوقت. كتب يوهان هويزينجا في كتابه الشهير “انحسار العصور الوسطى”:

«كان الشعور العام بالكارثة الوشيكة يخيم على الجميع. وساد الخطر الدائم في كل مكان […] كان الشعور بانعدام الأمن الناجم عن الحروب وبسبب التهديد المستمر من جانب الحكام وعدم الثقة بالعدالة، قد تفاقم أكثر بسبب الهوس بالنهاية الوشيكة للعالم وبالخوف من الجحيم والسحرة والشياطين […] كان لهيب الكراهية والظلم يسود في كل مكان. وكان الشيطان يغطي الأرض الكئيبة بجناحيه القاتمتين».

كان وعد الخلاص والحياة الأبدية موجودا من الناحية النظرية، لكن في الواقع كانت الصورة العامة لتلك الفترة هي الظلام القاتم. وينعكس الشعور المتشائم في شعر ذلك العصر، كما هو الحال في الأبيات التالية للشاعر الفرنسي ديشامب، الذي يقارن العالم برجل عجوز مريض بلغ حالة متقدمة من التحلل[3]:

(العالم الآن جبان، فاسد وضعيف،
عجوز، شهواني، ومشوش الكلام؛
لا أرى سوى الحمقى نساء ورجالا…
إن النهاية تقترب حقا…
كل شيء يسير بشكل سيء.)

عربة التبن أو قوة المال

في ظل الإقطاع كانت ملكية الأرض هي التعبير عن القوة الاقتصادية. كان للمال دور ثانوي. لكن تزايد أهمية التجارة والتصنيع وبدايات نمو علاقات السوق التي رافقتهما، جعلت للمال سلطة أكبر. لكن إلى جانب الثروة الفاحشة، كانت حياة الجماهير بائسة ومؤلمة ووحشية وقصيرة. كانت حياة الفلاح في ظل الإقطاع قاسية حتى في الظروف العادية. لكن الظروف خلال المرحلة المتأخرة من الإقطاع لم تكن عادية على الإطلاق.

كان صعود الرأسمالية -خاصة في هولندا حيث ظهرت في وقت أبكر من أي بلد آخر باستثناء إيطاليا- مصحوبا ببروز سلوكيات جديدة، توطدت تدريجيا إلى أخلاق جديدة ومعتقدات دينية جديدة. سيطرت الرابطة الهانزية، التي كانت تضم أكثر من مائة مدينة تجارية، على التجارة من إنجلترا إلى روسيا. تم صنع ثروات كبيرة. ظهرت عائلات مصرفية قوية، مثل آل فوغر، وتحدت سلطة الملوك. ونشأت قوة جديدة، قوة كانت تفكك نسيج المجتمع القديم وتقوض قيمه هي قوة المال.

كانت هناك روح جديدة تتصاعد: روح المادية والنزعة التجارية. وتدريجيا أصبح الفن نفسه سلعة. فإذا كان الفنان بارعا يمكنه هو نفسه أن يكتسب الثروة والمكانة. لكن أغلبيتهم كانوا مجرد فنانين بروليتاريين أو حرفيين في أحسن الأحوال.

في ثلاثيته العظيمة، عربة التبن، (رسمت ما بين 1485 و1490، برادو، مدريد)، يظهر بوش عالما يحكمه الجشع والعنف: هنا تجري البشرية كلها وراء عربة التبن. إن عربة محملة بالتبن، كما تلك التي تظهر في لوحة بوش، كانت مشهدا مألوفا لشعوب القرن الخامس عشر، كرمز للطعام المخزن لفصل الشتاء وبالتالي كرمز للازدهار. لكن التبن هنا يرمز إلى قوة الثروة والمال. إنه يذكر بالمثل الهولندي القديم: “De werelt is een hooiberg؛ elk plukt ervan wat hij kan krijgen” (العالم كومة تبن والجميع ينتزع منها قدر ما يستطيع الحصول عليه). وكل البشرية تجري وراء عربة التبن، التي يقودها سبعة شياطين نحو نيران الجحيم المشتعلة على الجانب الأيمن.

مقدمة اللوحة فوضوية. الكل يقاتل من أجل الحصول على القليل من “التبن”. في المقدمة، نرى رجلا يقطع عنق رجل آخر مقابل ذهبه. يبدو الناس على استعداد للقتل أو لأن تدهسهم العربة من أجل المال. تقدم النساء أجسادهن لأجله. القضاة يبيعون شرفهم لأجله. وإلى يمين اللوحة يتم جر العربة من طرف مجموعة متنوعة من المخلوقات الشيطانية الغريبة من العالم السفلي. أحد تلك المخلوقات مزيج من رجل وسمكة؛ والآخر شبه طائر؛ والثالث رجل مقنع مع أغصان تنمو على ظهره.

وقربهم يمكن رؤية الناس يتدفقون من مدخل خشبي في تلة. ويرافق العربة نفسها رجال ونساء يحاولون انتزاع حفنة من التبن؛ يتقاتلون ويسقطون تحت العجلات. وفي مقدمة اللوحة نرى راهبتين تملآن كيسا من التبن من أجل قس سمين يبدو هادئا وهو يشرب النبيذ المقدس بينما يشاهد ما يجري من نهب. لا يقتصر الأمر على فضح النهب الذي تمارسه الكنيسة ضد الشعب، بل يلمح أيضا إلى العلاقات الجنسية غير المشروعة بين الراهبات والرهبان. كان هذا متداولا بشكل كبير في ذلك الوقت، لأسباب وجيهة. كانت هناك فضائح كثيرة منسوبة إلى الكنيسة؛ وكان المؤمنون يشعرون بأنهم مهجورون.

كانت الكنائس من بين أكبر ملاكي الأراضي في ذلك الزمن. وكان الرهبان والقساوسة، على الرغم من أنهم أقسموا على العمل الخيري وحياة الفقر، يولون اهتماما أكبر للحصول على وسائل الراحة المادية لأنفسهم بدلا من العيش في حياة الزهد. تم جمع جزء كبير من ثروة الكنيسة من خلال بيع صكوك الغفران، التي هي قصاصات من الورق تعد المشتري بالخلاص مقابل مبلغ صغير. وقد تفاخر هانز ديتز، بائع الصكوك الشهير، بأن الأرواح تتحرر من الجحيم بمجرد ما ترن العملات المعدنية في صندوقه. ويظهر موقف بوش تجاه الكنيسة من خلال وجود الراهبات والرهبان وهم يشاركون بجشع في مطاردة عربة التبن.

الشخصيات الوحيدة في الصورة التي تبدو هادئة ومنعزلة هم أغنياء الأرض: إلى اليسار هناك إمبراطور وملك وبابا على أحصنة خلف العربة وعلى بعد مسافة محترمة، يصاحبون من بعيد عربة العشب الجاف. ومع ذلك فإن عزلتهم مجرد خدعة. فالسبب الوحيد وراء كونهم لا يلاحقون العربة هو أنهم يمتلكون بالفعل أكثر مما يكفي من “التبن” – لكنهم في الواقع هم أيضا عبيده المخلصون الطيعون، وهم أيضا يسيرون بلا هوادة نحو يوم الحساب.

وجه الشر

في ألمانيا كان الفن القوطي المتأخر قد بدأ يعكس الروح الجديدة لعصر النهضة التي ظهرت في إيطاليا. لكن في حين أن الفن الإيطالي مليء بالضوء وأشعة الشمس، فإن الفن الألماني في تلك الأوقات كان مظلما، ومواضيعه قاتمة، وطريقته غريبة. كان ذلك الفن معلق بين عالمين، كان له طابع انتقالي لأنه ابن حقبة تقليدية، يقف على مفترق طرق بين نهاية الإقطاع وبداية الرأسمالية.

مذبح ايزنهايم (Isenheim Altarpiece) لوحة رسمها الفنان الألماني ماتياس غرونوالد في 1506-1515. وفيها يصور عملية الصلب بطريقة وحشية وسادية. لا توجد هنا راحة ولا شعور بالخلاص أو للحياة بعد الموت، فقط سواد متواصل. وتعكس الشياطين الموجودة انتصار الشر. إنه فن زمن الخوف والقلق. إنه يخترق أعماق النفس الجماعية في وقت مضطرب حيث الرجال والنساء محاصرين من جميع الجهات بقوى الشر الجامحة.

في لوحته “السخرية من المسيح” يصور بوش الناس على أنهم شياطين، ووجوههم موسومة بتعابير لاإنسانية. تظهر السلطة في شخص بيلاطس البنطي، الذي يظهر كمنافق كلبي بغيض. الوجه الإنساني الوحيد هو وجه المسيح نفسه، الذي سيستشهد قريبا. وهنا مرة أخرى تبدو النظرة إلى الإنسانية سلبية، إنها رؤية عالم يسير إلى الخراب والدمار وإنسانية محرومة من الخلاص.

وفي لوحة “المسيح يحمل الصليب” الموجودة في متحف الفنون الجميلة في جنت، نرى صورة المسيح وحيدا منهكا يحيط به رجال لديهم وجوه وحوش وغيلان. إنها وجوه رجال فاسدين إلى درجة أنهم فقدوا كل محتوى أو شعور بشري. إلا أنه عند القيام بفحص دقيق نرى أن مثل هذا الاستنتاج ليس دقيقا. إن ما يصوره بوش ليس الإنسانية بشكل عام، بل مجموعة اجتماعية محددة. فتلك ليست وجوه الناس الفقراء، بل هي وجوه التجار والفرسان وغيرهم من أصحاب السلطة، بما في ذلك الراهب الدومينيكي البشع.

أما الخطاة الذين يعانون عذاب الجحيم فقد صورهم بوش في لوحاته بإحساس يظهر أنه يكن لهم كراهية مطلقة. وهذا ما يشكل كذلك درسا لعصرنا الحالي. كان بوش يرسم في وقت كانت فيه قيم السوق والمال ظواهر جديدة برزت كقوة اجتماعية. وفي وقتنا الحاضر نتحدث عن شخص يمتلك مليار دولار بينما صار الناس مجرد سلع وأشياء للبيع.

إن الأغنياء وأصحاب السلطة مستعدون لإظهار أشد أنواع الوحشية والقسوة من أجل الدفاع عن سلطتهم وثرواتهم وامتيازاتهم. إن الوجوه المجردة من الإنسانية التي نراها في “المسيح يحمل الصليب” هي وجوه الجشع والشره وفساد الروح البشرية. إنها وجوه الأغنياء وأصحاب السلطة على الأرض، ليس كما يرغبون في تصوير أنفسهم، بل كما هم في الواقع. ينزع عنهم بوش بلا رحمة قناعهم المبتسم، ليكشف الوحش الشرير الذي يكمن خلفه.

بالطبع، يحب أولئك الذين يوجدون في مواقع السلطة أن يروا أنفسهم بصورة مختلفة تماما، كمحسنين للبشرية و”خالقي مناصب الشغل” و”قادة الصناعة”، وما شابه ذلك. ويصورهم الرسامون المتملقون بأشكال أكثر بهاء. عربة التبن هي ما يفسر لنا ذلك، إنه نتاج لما يسمى باقتصاديات السوق التي تفسد العالم وتسلبه من إنسانيته.

حديقة المسرات الأرضية

يضم متحف برادو في مدريد أفضل تحفة لبوش التي هي: حديقة المسرات الأرضية. في هذه اللوحة يتم التعبير عن مأساة الوجود البشري بقوة مذهلة. اللوحة برمتها شغب جنوني من اللون والحركة يكاد يصيب الانسان بالدوار. هناك كمية هائلة من التفاصيل والصور المذهلة والمتجاورة التي يصعب استيعابها كلها في وقت واحد. لكن عندما نركز على كل التفاصيل، نتعجب من ثراء مفهومها.

نجد في حديقة المسرات الأرضية موضوعا متكررا عند بوش. وهذا في حد ذاته تناقض ومظهر لصراع تيارات متناقضة. يتم تقديم الفاكهة المحرمة (المتع الحسية الدنيوية، أو آثام الجسد) كفاكهة ونساء جميلات عاريات، أكثر الفواكه المحرمة المرغوبة. وهي نفس الصور التي يمكن رؤيتها في “إغراءات القديس أنطونيوس”. لكن عند الفحص الدقيق يتضح أن بوش لا يرسم مسرات الأرض، بل عذابات الجحيم.

اللوحة عبارة عن ثلاثية (كما هو الحال مع عربة التبن)، أي أنها مقسمة إلى ثلاثة أجزاء. وذلك بالنسبة لأسلوب القرون الوسطى لديه دلالة رمزية. إنه يروي قصة. أو بعبارة أصح إنه يروي قصة سقوط الإنسان. من اليسار إلى اليمين تبدأ اللوحة بجنة عدن. لكن حتى في هذه الجنة، هناك بذور الشر موجودة بالفعل. فهناك نرى بالفعل عددا من الوحوش: سمكة بأيد بشرية ورأس بطة يمسك كتابا وهو يخرج من تجويف، بينما قتل أسد فريسته وهو على وشك التهامها. ونافورة الحياة، ذات الشكل البشع في وسط الصورة، يعلوها هلال، الذي هو رمز الشيطان وإحالة على الإسلام والأتراك.

والأكثر شرا هي البومة التي تحدق من حفرة في قاع النافورة. وفي حين أن البومة بالنسبة لليونانيين القدماء كانت طائرا مرتبطا بأثينا إلهة الحكمة، فإن هذا الطائر الليلي قد ارتبط في العصور الوسطى بالشيطان والشر. وتظهر البومة باستمرار في العديد من أعمال بوش.

تقدم اللوحة المركزية بانوراما واسعة للحياة: أشكال عارية وحيوانات خيالية وفاكهة كبيرة وناضجة وتشكيلات حجرية هجينة. الفراولة العملاقة التي يسعى الناس جاهدين لتذوقها هي رمز للإغراء في شكله الأكثر وضوحا، أي الجنس. والسمكة الضخمة التي تظهر على جميع الجوانب هي رمز قضيبي. في اللوحة الأولى نرى البشر (آدم وحواء) ​​أكبر من الحيوانات وبحجم مساو ليسوع (الرب). لكن في اللوحة الثانية نجد الأحجام قد تغيرت.

تحتوي اللوحة المركزية على العديد من الطيور التي تختلط مع البشر، بل وحتى توفر لهم الفاكهة (المحرمة). نجد هنا ضربة عبقرية تقربنا من السريالية. في الحياة اليومية عادة ما تعتبر الطيور كائنات غير ضارة. تجذبنا بريشها الملون وتغريدها اللطيف. لكن الطيور التي نراها في اللوحة شريرة وخطيرة، إنها كبيرة الحجم وأكبر بكثير من البشر. وبعيونها الفارغة ومناقيرها الحادة القوية، تبدو وكأنها تهدد البشر العراة العزل الموجودين حولها.

في حديقة المسرات الأرضية هناك خطر في كل خطوة. يحذرنا بوش من زوال كل الملذات الدنيوية. فسرعان ما يختفي الطعم الحلو للفاكهة الفاتنة. وجميع البشر يسيرون في اتجاه واحد فقط، والذي يظهر على اللوحة اليمنى، حيث نرى مشهدا جهنميا حقيقيا يصور بالتفصيل عذاب المغضوب عليهم.

تتم معاقبة المدانين حسب خطاياهم: يحكم على الشرهين بالتقيء الأبدي أو يتبرزهم الشيطان الذي له رأس طائر. وهناك رجل (ربما كان موسيقيا في حياته) تخترق جسده أوتار قيثارة، بينما يظهر آخر وقد تم إدخال ناي في شرجه. وهناك تنوع مذهل للشياطين والوحوش، كل واحد منها كابوس في حد ذاته.

لكن أكثر وحوش الجحيم إثارة للرعب والحيرة هو ذلك الذي على صورة رجل شجرة ويقع في وسط اللوحة. جذعه المجوف، الذي يقف على جذعي شجرة متعفنة، مثقوب بفروع حادة تبرز من جسده. ينظر الرجل الشجرة بعيدًا وتشير تعابيره الغريبة والحزينة إلى أن الرجل الشجرة قد يكون صورة ذاتية لبوش نفسه، وهو يستعرض مشهد سقوط البشرية المحزن.

تناقضات

تظهر هذه اللوحات الرائعة تباينا شديدا بين الضوء والظلام، لكن في النهاية الظلام هو الذي يفوز دائما. نجد هنا جميع كوابيس العصور الوسطى دفعة واحدة. نجد نار جهنم والعذاب واللعنة الأبدية والظلمة والنحيب والحسرة.

نجد في لوحات بوش إحساسا قويا بالتناقض. لا نرى فقط ذلك الصراع المؤلم بين التيارات المتناقضة، بل نشعر به ونلمسه ونسمعه ونشمه. الصور نابضة بالحياة إلى درجة أنها تخرج من اللوحة وتقبض عليك من عنقك. إنها تشبه كثيرا فن السريالية، الذي كان نتاجا لسياق تاريخي مشابه، حيث كانت نفس التناقضات والتي يتم عرضها في تجاور صادم.

رسم بوش الفترة التي عاش فيها وعكسها كمرآة. لقد كان القرن الخامس عشر بالفعل فترة جحيم فوق الأرض بالنسبة للغالبية العظمى من الرجال والنساء. يتميز فنه بعمق كبير، ومثله مثل جميع الفنون العظيمة، لا يبقى على السطح بل يخترق أعمق أجزاء نفسية الإنسان، ويجلب كل أحلامها وكوابيسها السرية إلى السطح. الفن هنا يقلد الحياة.

في عالم يعاني فيه الكثيرون من الجوع، نرى مشاهد مروعة للشراهة. نرى هناك نفس التفاوتات الفادحة بين الغنى والفقر، ونفس اللامساواة والظلم الموجودة في عصرنا الحالي. ولأن بوش غير قادر على تصحيح تلك المظالم الصارخة في الواقع، فإنه يعاقبها من خلال الرسم. تتوافق معاناة المدانين بشكل وثيق مع طبيعة آثامهم: فالنساء الفاسقات يمارس عليهن الجنس من قبل الضفادع والسحالي التي تتشبث بأعضائهن الحميمية. هذا تعبير عن كراهية النساء الموجودة في المسيحية والتي بموجبها كانت الخطيئة الأصلية جريمة ارتكبتها حواء الأم. ويعذب الموسيقيون بأدواتهم الخاصة التي تحولت إلى وسائل للتعذيب، إلخ.

تعود جذور الإلهام الفني لهذه الرؤى إلى العصور الوسطى، على الرغم من أنها تبدو معاصرة بشكل لافت للنظر. يمكن العثور عليها في الأشكال الشريرة للشياطين والخطاة المرسومة على جدران الكنائس. كان هذا بالفعل هو الجزء الأكثر حيوية في ذلك الفن القديم. لكنه بعد ذلك صار له دور ثانوي، وها هو يعود هنا إلى الصدارة ليعيش حياة خاصة به.

الإصلاح والإصلاح المضاد

داهم الموت أخيرا بوش في موطنه الأصلي سيرتوخيمبوس عام 1516. وبعد عام واحد سار راهب شاب، يدعى مارتن لوثر، إلى كنيسة فيتنبرغ وسمّر أطروحاته الـ 95 على بابها. لقد عبر تمرد البرجوازية ضد الإقطاع عن نفسه في البداية في شكل احتجاج ديني، بطبيعة الحال. لقد عبر الدين البروتستانتي في الجوهر عن وجهة نظر ومصالح البرجوازية. بينما وجد النظام الإقطاعي القديم تعبيره الأكثر تعصبا في إسبانيا الكاثوليكية.

وقفت كل أوروبا آنذاك على حافة مرحلة الثورات والثورات المضادة التي اتخذت شكل حروب دينية. كانت على وشك الدخول في رقصة الموت التي استمرت لمدة ثلاثة عقود. واشتعلت النيران، التي ظهرت في لوحات بوش عن الجحيم، في مدن هولندا وألمانيا وبوهيميا. ولم يشهد أي مكان آخر حروبا دينية أكثر قسوة مما كانت عليه في وطن هيرونيموس بوش نفسه، حيث ظهرت الثورة البرجوازية الأولى في التاريخ على أنها حرب استقلال وطني لهولندا ضد إسبانيا.

يشبه العذاب القاسي الذي تصوره بوش ذلك العذاب الذي مارسته بالفعل محاكم التفتيش الإسبانية على أجساد الرجال والنساء العاجزين باسم الدين. وبعد أن تمكن دوق ألبا الهمجي من إغراق أول ثورة لهولندا البروتستانتية في الدماء، تم نقل العديد من لوحات بوش الأكثر شهرة إلى إسبانيا. كان فيليب الثاني، الكاثوليكي المتعصب وزعيم الحملة الصليبية ضد البروتستانتية، من المعجبين المتحمسين ببوش، وعمل على شراء ومصادرة جميع أعماله التي تمكن من الحصول عليها. واحتفظ بها في قصره الإسكوريال، الذي هو مزيج غريب بين دير وبين مركز للسلطة الإمبراطورية.

اللوحة التي رسمها بوش للخطايا السبع المميتة وضعها فيليب الثاني في غرفة نومه وكانت ما تزال موجودة هناك عندما توفي. إنها لوحة تحمل التحذير التالي: “إحذر، إن الله يرى”. لكن من المشكوك فيه أن فيليب قد رأى أي شيء. إنه لم يفهم بوش أو لوحاته، التي تحتوي على إدانة قاسية للكنيسة الرومانية وممارساتها الفاسدة، مثل الصورة الخالدة لخنزيرة ترتدي غطاء رأس راهبة، وتضغط على رجل لكي يوقع وثيقة، ربما للتوقيع على تقديم أملاكه للكنيسة. تحتوي تلك اللوحات على تصوير صارخ للانحلال الأخلاقي والفساد الداخلي للكنيسة.

سخرية التاريخ الغريبة جعلت أعمال بوش تتلقى استقبالا حماسيا من طرف قبل قادة الإصلاح المضاد، مثل المستشار الروحي للملك فيليب، فراي خوسيه دي سيغوينزا. في الواقع لا تظهر أي من لوحات بوش ولو صورة واحدة لراهب أو راهبة بشكل ايجابي. إذا كان بوش يمهد لشيء ما فهو الإطاحة بالكنيسة وليس الدفاع عنها. بل يمكن للمرء أن يقول إن لوثر قد أعطى تعبيرا متماسكا عن الأفكار غير المتماسكة التي عبر عنها بوش في مجال الفن. وبهذا المعنى فإن الفن يستبق التاريخ.

بل إن بعض الخبراء قالوا إن بوش كان عضوا في واحدة من العديد من طوائف الهرطقة المنشقة، التي ظهرت في ذلك العصر مثلما يظهر الفطر بعد عاصفة رعدية. حاول فيلهلم فراينغر إثبات أنه كان عضوا في طائفة دينية منشقة اسمها الآدميون. كانوا يطلقون على بعضهم البعض اسم الأخ والأخت، واحتلت النساء مكانة بارزة بينهم. احتفلوا بالشجرة وبمسرات الجنة. وكانوا يتعبدون معا وهم عراة مثل آدم وحواء قبل السقوط. كانت هذه فكرة ثورية، حابلة بالنزوع إلى المساواة. يدعي فراينغر أن لوحات بوش تعتمد على طقوس آدمية. لكن كتابا آخرين اعترضوا على ذلك، ولا يوجد دليل حقيقي يؤكد أو ينفي.

آنذاك والآن

يمكن اعتبار بوش آخر رسامي العصور الوسطى. وفي إشارة منه إلى فن تلك الفترة، كتب والتر بوسين قائلا: «لقد اشتعلت العصور الوسطى المحتضرة بلمعان كبير قبل أن تنطفأ إلى الأبد»[4]. لكن هذا الفن لا يبدو لنا من القرون الوسطى. إنه يتحدث لنا بصوت عال وواضح. لا يقتصر هذا على أسلوبه وتقنياته التي تبدو معاصرة بشكل مذهل، إن الأمر يتعلق برسالته الداخلية. إنه فن لديه ما يقوله. إنه ينظر بلا خوف في وجه الواقع ويطلب منا الحكم عليه. يا له من تناقض مع الفن العقيم التافه الذي نراه اليوم!

رسم بوش لوحاته في وقت كانت فيه الرأسمالية في بداياتها الأولى. كان عصرها البطولي ما يزال في المستقبل. وكان ذلك يقع خارج مجال رؤية بوش. كل ما كان يمكنه أن يراه هو الأعراض الواضحة لمجتمع في لحظة انحطاطه النهائي. وكلما وصل نظام اجتماعي اقتصادي معين إلى استنفاذ إمكانياته، نرى نفس الأعراض: الأزمات الاقتصادية والحروب والصراعات الداخلية والانحلال الأخلاقي وأزمة الأفكار، والتي تنعكس في تراجع الإيمان بالدين القديم والأخلاق القديمة، مع تصاعد النزعات الصوفية وغير العقلانية، والشعور العام بالتشاؤم وانعدام الثقة بالمستقبل، وانحطاط الفن والثقافة.

هذه هي السمات التي يتوقع المرء أن يجدها في مجتمع استنفد دوره التقدمي وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما فعل في الماضي. وكلما حدث ذلك يظهر شعور بأن “نهاية العالم تقترب”. في روما القديمة وجد هذا الاعتقاد انعكاسه في الدين المسيحي الذي اعتبر أن العالم على وشك أن ينتهي بالنيران. وفي فترة احتضار الإقطاع بدأ أعضاء طوائف اللطمية (Flagellant) يتجولون في المدن والقرى متنبئين بنهاية العالم. لكن في كلتا الحالتين ما كان يقترب حقا ليس نهاية العالم، بل زوال نظام اجتماعي واقتصادي محدد (العبودية، الإقطاع).

والآن، مع اقتراب نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من الواضح أن الرأسمالية نفسها قد دخلت مرحلة من الانحطاط النهائي.

لعالم هيرونيموس بوش الكثير من الأشياء المشتركة مع عالمنا اليوم. فعالم أوائل القرن الحادي والعشرين عالم الاضطرابات والعنف والفوضى. إنه عالم 11 شتنبر ونهب العراق وأفغانستان. نحن نعيش في عالم تتمزق فيه الإنسانية بالحروب والمجاعات والبؤس إلى جانب أكثر مظاهر الثراء والتبجح وقاحة.

يتجلى مرض النظام على جميع المستويات. وبعد خمسة قرون ما تزال عربة التبن تتدحرج، وتسحق الرجال والنساء تحت عجلاتها الثقيلة. لقد أصبح الاغتراب الرأسمالي وصنمية السلع جزءا من سيكولوجيتنا لدرجة أننا لم نعد ندركهما. يتطلب الأمر فنانا من حجم بوش لكي يخرج هذه المشاعر الخفية إلى سطح وعينا.

لم يحدث في التاريخ قط أن كانت سلطة المال راسخة كما هي عليه في عصرنا الحالي. ينحط الناس إلى مستوى الأشياء وتكتسب الأشياء الجامدة خصائص الناس. وفي هذه السيرورة تنهار الإنسانية وتضعف وتباد. وتلك الوجوه القاسية واللاإنسانية المليئة بالجشع والشره، التي تظهر في لوحات بوش، يمكن العثور عليها اليوم في قاعات التداول في البورصات، تلك الكازينوهات الشاسعة حيث يتم تحديد مصير الملايين من خلال التحركات المتشنجة للأسواق.

إن رؤية بوش الكابوسية ليست بعيدة عن حالة عصرنا، باستثناء أنه بدلا من اللوحات يمكننا رؤية نفس الصور المخيفة كل ليلة على شاشات أجهزة التلفزيون لدينا. لكن هذا لا يجد أي تعبير حقيقي عنه في الفن المعاصر. لقد تم ذبح أربعة ملايين رجل وامرأة وطفل في الحروب الأهلية في الكونغو، وأفضل ما يمكن لفنانينا البريطانيين إنتاجه هو سرير غير مكتمل.

لماذا ينظر الناس دائما إلى الخلف، وهم يعجبون بحزن بفن الماضي العظيم؟ ذلك لأن فن اليوم لم يعد لديه أي شيء مفيد ليقوله. لقد أنتج بابلو بيكاسو تحفته “غيرنيكا” ردا على الحرب الأهلية الإسبانية. وأنتج غويا “كوارث الحرب” كتعليق وحكم على أهوال عصره. لكن ما يعرض علينا اليوم هو سمكة قرش ميتة ومخللة في الميثانول (Formaldehyde)[5].

الفن نفسه هو الذي تم قتله وتحنيطه في علبة زجاجية. ولأول مرة منذ قرون، لم يعد لدى الفن شيء يخبرنا به عن العالم الذي نعيش فيه. لقد أصبح ملكية محتكرة من طرف مجموعة صغيرة من الانتهازيين والفنانين البعيدين عن الواقع والحياة. وإذا أظهر الفن لامبالاة بالحياة الواقعية وباهتمامات الناس، لا عجب أن يبدي الناس اللامبالاة الكاملة تجاه الفن.

يحتاج عصرنا إلى هيرونيموس بوش خاص به ليضع مرآة أمام وجهه ويظهره كما هو. لا بد أن مثل هؤلاء الفنانين موجودين في مكان ما لكن أصواتهم غير مسموعة. لقد طمسهم كرنفال جني الأموال الصاخب الذي يسيطر على الفن تماما مثلما يسيطر على بقية المجتمع. لكن عاجلا أم آجلا، سيتمكن صوت الفن الحقيقي، الصوت الصادق والشجاع، من أن يصير مسموعا، وستصير الانسانية أكثر ثراء به.

آلان وودز
لندن 23 دجنبر 2010
ترجمة: أنس رحيمي
29 ماي 2020


[1] يوهان هويزينجا ‏ كان مؤرخ هولندي وأحد مؤسسي التاريخ الثقافي الحديث.

[2] P. Beagle, The Garden of Earthly Delights, p. 14.

[3] “Or est laches, chetis et moltz,
Vieux, convoiteux et mal parlant;
Je ne voy que foles et folz…
La fin s’approche, en verité …
Tout va mal.”

[4] Hieronymus Bosch, c. 1450-1516: between heaven and hell.

[5] عمل من إنجاز الفنان البريطاني داميين هيرست، الذي يتمثل في سمكة قرش محفوظة داخل حوض مليء بسائل الميثانول. المترجم.