الطاعون: الجائحة التي غيرت العالم

وجه طاعون القرن الرابع عشر ضربة قاتلة للنظام الإقطاعي، الذي كان يحتضر حتى قبل أن يضرب الطاعون. وبالمثل فقد كشفت جائحة كوفيد-19 اليوم عن إفلاس الرأسمالية، والحاجة إلى الاشتراكية.

[Source]

إن جائحة كوفيد-19 الحالية هي حدث يغير العالم حقا. لقد أدى انتشارها السريع والقاتل إلى فضح الحكومات بلا رحمة، وتسببت في إجهاد الخدمات الصحية إلى نقطة الانهيار، وفي أعمق أزمة تشهدها الرأسمالية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، إن لم نقل أعمق أزمة على الإطلاق.

تغيرت حياة الناس في جميع أنحاء العالم بشكل كلي. ومع بداية تجاوز الصدمة الأولية، بدأت موجة هائلة من الغضب والاشمئزاز ضد النظام الرأسمالي ومؤسساته في الظهور. وفي كل مكان هناك شعور عميق بأن الأشياء لن تعود كما كانت عليه مرة أخرى.

في مواجهة مثل هذه الأحداث، سعى المعلقون، بطبيعة الحال، إلى إجراء مقارنات تاريخية للفترة التي دخلناها. بالنسبة للكثيرين، يمكن العثور على أقرب مقارنة ليس في العصر الحديث، بل في الطاعون المميت الذي اجتاح أوروبا وآسيا خلال القرن الرابع عشر، وقتل أكثر من ثلث سكان أوروبا.

هذا التشبيه معبر للغاية، ليس بسبب وجود تشابه في الآثار البيولوجية لجائحة اليوم وللطاعون، بل بسبب العواقب الاجتماعية الهائلة التي خلفها الطاعون.

يعتبر الطاعون أسوأ كارثة طبيعية في تاريخ أوروبا. لكن أثره على المجتمع تجاوز بكثير حدود القرن الرابع عشر. السيرورات التي تم إطلاق العنان لها، أو تسريع وتيرتها، بسبب الطاعون غيرت العلاقات الاجتماعية بشكل كامل، وأرست في النهاية أسس أوروبا الحديثة.

إن الفحص الدقيق للطاعون -وتأثيره على المجتمع الإقطاعي- ليس تمرينا أكاديميا. بالرغم من كل الاختلافات المهمة الموجودة بين القرنين الرابع عشر والحادي والعشرين، هناك شيء واحد مشترك بينهما: كلاهما فترات انتقالية، حيث يبدأ نظام قديم فاسد في الانهيار، بينما تكافح القوى الاجتماعية الجديدة من أجل أن تولد.

ما هو “الطاعون”؟

كان الطاعون جائحة سببها بكتيريا “اليرسينيا الطاعونية”، التي تعيش في بطن البراغيث، والتي نقلتها مختلف القوارض عبر آسيا وإفريقيا.

بين عامي 1347 و1351، انتشرت الجائحة عبر طرق التجارة. فعبر طريق الحرير وصلت إلى الصين والشرق الأوسط وأوروبا، متسببة في مقتل ملايين البشر. واستمرت تعود إلى الظهور (على نطاق أصغر) بشكل دوري حتى القرن الثامن عشر.

كان النوع الأكثر شهرة هو الطاعون الدبلي، وقد سُمي كذلك بسبب الدَّبلات الدائرية السوداء التي تتشكل نتيجة تورم الغدد الليمفاوية للضحية. وبسبب ذلك مات ما يصل إلى 60٪ ممن أصيبوا بالمرض. ما يزال من الممكن، حتى يومنا هذا، العثور على هذا النوع في أجزاء من الصين، حيث تم الإبلاغ عن حالة مشتبه بإصابتها بالطاعون الدبلي في منغوليا الداخلية في يوليوز الماضي.

لكن الطاعون الرئوي كان الأكثر فتكا، حيث كان ينتقل في الهواء من شخص لآخر، وثبت أنه قاتل في 95٪ من الحالات على الأقل. وأخيرا، كان هناك طاعون إنتان الدم -الناجم عن عدوى الدم- الأقل شيوعا، لكنه كان مميتا بدوره.

وفي حين أن طاعون القرن الرابع عشر هو الأكثر شهرة، فقد كان في الواقع ثاني طاعون يضرب أوروبا. فقد ضرب الطاعون الأول الإمبراطورية الرومانية الشرقية، في القرن السادس، عندما كان الإمبراطور جوستنيان يحاول غزو الغرب.

يعتقد أن تلك الموجة قتلت ما يقرب من نصف سكان أوروبا في ذلك الوقت، مما ساهم في نفس الوقت في انهيار الإمبراطورية الرومانية في الشرق وفي دخول أوربا العصور المظلمة.

من المهم ملاحظة أن وصول هاتين الجائحتين قد تزامن مع اثنتين من أعظم نقاط التحول في التاريخ الأوروبي: الأولى تزامنت مع سقوط الإمبراطورية الرومانية والثانية مع انهيار الإقطاع.

لقد تسبب الموت والذعر الناجمين عن الطاعون، بدون شك، في هز المجتمع من أسسه، سيكولوجيا وسياسيا واقتصاديا.

لكن لفهم التحول الذي حدث في المجتمع الأوروبي بعد وصول الطاعون، لا يمكننا النظر إلى هذا العامل بمفرده. من الضروري أن نفهم كيفية تنظيم المجتمع خلال القرن الرابع عشر؛ وكيف تفاعلت الصدمة الخارجية الهائلة للجائحة مع ديناميات المجتمع الداخلية.

المجتمع سنة 1347

أول ما يجب أخذه في الاعتبار عند التفكير في المجتمع الأوروبي، سنة 1347، هو أنه كان يقوم على أساس نظام مختلف تماما عن المجتمع الرأسمالي الحضري اليوم. كانت الغالبية العظمى من السكان (90٪ في إنجلترا) يعيشون ويعملون في الريف. لم تكن الوحدة الأساسية للمجتمع موجودة في المصنع أو المدينة -على الرغم من وجود مدن قروسطوية مزدهرة بشكل متزايد- بل في الضيعة الإقطاعية.

كان الصراع الطبقي في الريف الإقطاعي يخاض أساسا من قبل الأقنان، الذين كانوا يناضلون من أجل التحرر من السخرة ومن أجل إيجارات أقل / الصورة: المجال العام

كانت الضيعة في الأساس قرية، حيث يستأجر الفلاحون الأرض من “سيد الضيعة” مقابل جزء من منتجاتهم، وخدمات السخرة في حقول السيد، وهي الأرض التي كان يمتلكها مباشرة. شكل هذا النوع من الاستغلال، المسمى بالقنانة، الأساس الذي قام عليه النظام الإقطاعي بأكمله.

في ظل الإقطاع، لم تكن الطبقة السائدة هي أصحاب الأبناك والصناعيين الذين يحكمون المجتمع اليوم. لم تكن البرجوازية الصناعية موجودة أصلا في تلك المرحلة. كان أسلافهم هم الحرفيون الذين عاشوا وعملوا في المدن. كانت الأعمال المصرفية موجودة في شكل بدائي للغاية. كان التجار أقوى فئة برجوازية وأكثرها نفوذا. لكن العصر الذهبي للتاجر الرأسمالي لم يكن قد سطع بعد.

كانت الطبقة السائدة تتكون من النبلاء الإقطاعيين العسكريين والكنيسة: “الذين يقاتلون” و”الذين يصلون”. لكن وبصرف النظر عن الصلاة والقتال، فقد امتلك النبلاء كذلك جميع الأراضي تقريبا، باستثناء الأراضي المشتركة مثل الغابات، وما إلى ذلك.

وبصفتهم مالكين لأهم وسائل الإنتاج في ذلك الوقت -أي الأرض- فقد سيطر الكهنة والنبلاء بطبيعة الحال المؤسسات السياسية والفكرية والروحية للمجتمع.

لم تكن هناك طبقة عاملة كما نعرفها اليوم. كان العمال إما يشتغلون لحسابهم الخاص؛ أو كانوا فلاحين غير أحرار يعملون لدى السادة الإقطاعيين، ويسمون بـ”الأقنان”.

وبدلا من الصراع بين العمال المأجورين وبين أرباب العمل حول الأجور وساعات العمل وظروف العمل، كان الصراع الطبقي في الريف الإقطاعي يخاض أساسا من قبل الأقنان، الذين كانوا يناضلون من أجل التحرر من السخرة ومن أجل إيجارات أقل.

ذلك النظام، الذي يبدو عتيقا اليوم، لعب دورا تقدميا في انتشال أوروبا من العصور المظلمة. إذ أنه بين القرنين العاشر والثالث عشر، تضاعف عدد سكان أوروبا ثلاث مرات تقريبا، إلى حوالي 80 مليون نسمة، وهو أعلى مستوى له منذ ما يقرب من 1000 عام.

وبعد أن كانت التجارة الداخلية في أوروبا قد اختفت تقريبا خلال العصور المظلمة، فقد بدأت في الظهور، جنبا إلى جنب مع تطور مدن القرون الوسطى والبرجوازية. وفي غضون ذلك عادت التجارة الخارجية مع إفريقيا وآسيا إلى الازدهار مرة أخرى. لكن المفارقة هي أن ذلك التطور الذي عرفته التجارة كان هو الذي تسبب في انتشار الطاعون بسرعة كبيرة في القارة وعبرها.

حدود النظام الإقطاعي

لا يمكن لأي نظام اجتماعي أن يطور المجتمع إلى الأبد. فعند نقطة معينة، تتحول العلاقات الاجتماعية التي حفزت التقدم والتطور في السابق، إلى عائق أمام المزيد من التطور. كان المجتمع الإقطاعي قد وصل إلى تلك النقطة حتى قبل أن يضرب الطاعون.

بحلول بداية القرن الرابع عشر كان النظام الإقطاعي قد وصل إلى حدوده. انتهى توسع الزراعة في الأراضي البكر، الذي طور الإنتاج والنمو السكاني خلال الفترة السابقة. وهكذا فقد بدأ فائض إنتاج الغذاء في الانكماش بالنسبة لعدد السكان. لم يعد في الإمكان استمرار نمو إنتاجية العمل، التي كانت تعوقها حدود الضيعة الاقطاعية والاستهلاك الشره للسادة الإقطاعيين.

كان أغلبية الفلاحين يزدادون فقرا، بينما كان السادة يضغطون أكثر فأكثر. في عام 1307، ضربت مجاعة رهيبة في جميع أنحاء أوروبا، والتي تعتبر الأسوأ في التاريخ الأوروبي، مما أسفر عن مقتل ما بين 10٪ و25٪ من السكان.

والأسوأ من ذلك هو أن الفلاحين كانوا قد بدأوا يعانون من نقص الأراضي. ومع عدم وجود أراض عذراء، بقي بعض الأبناء دون ميراث، مما حرمهم من مصدر الرزق ومهد الطريق لحدوث أزمة اجتماعية عميقة. يقول روبرت جوتفريد في كتابه ” The Black Death”:

“كان الفلاح في الماضي يتمتع بحق أن يكون فلاحا؛ لكن وبعد عام 1250، أصبح هذا الأمر أكثر صعوبة. كان نظام الضيعة القديم ينهار، وكان السادة، الذين صار واضحا آنذاك أنهم لا يقدمون أي فائدة حقيقية، يزدادون ثراء”.

تذكرنا هذه السطور بما كتبه ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي حول أن المجتمع لم يعد بإمكانه أن يعيش في ظل البرجوازية، “لأنها لم تعد قادرة على ضمان وجود عبدها في ظل عبوديته”. كان النظام القديم مريضا بالفعل. وقد أعطى الطاعون لهذا المرض تعبيرا ملموسا ومروعا.

انتشار الطاعون

يُعتقد أن الطاعون ظهر لأول مرة في صحراء غوبي في عشرينيات القرن الثالث عشر. وحمله التجار والفرسان المغول إلى جميع أنحاء أوراسيا، ليصل إلى الصين في ثلاثينيات القرن الرابع عشر ويقتل ما يقرب من ربع السكان.

ثم انتشر في اتجاه الغرب، حيث قال أحد المؤرخين إن: “الهند خلت من السكان؛ غطت الجثث ترتاريا وبلاد ما بين النهرين وسوريا وأرمينيا؛ وقد فر الكورد عبثا إلى الجبال”.

وكما هو الحال مع جائحة كوفيد اليوم، فقد كانت إيطاليا هي أول بلد أوروبي يصاب. تجار جنوة -الذين كانوا يتاجرون على طول ساحل البحر الأسود- التقطوا الطاعون عن غير قصد ونقلوه إلى أوطانهم، وكذلك إلى بقية مناطق البحر الأبيض المتوسط. من هناك انتشر بسرعة في كل من أوروبا المسيحية والعالم الإسلامي.

كان حجم الدمار كبيرا لدرجة أن العديد من المدن في كل من الغرب والشرق لم تسترد عدد سكانها قبل الطاعون حتى أواخر القرن السادس عشر/ الصورة: المجال العام

كانت القاهرة واحدة من أكبر مدن العالم في ذلك الوقت وقد تضررت بشكل خاص. في ذروة الجائحة وصل العدد اليومي للقتلى في القاهرة إلى 7000 شخص. أدى نقص المقابر إلى دفن العديد من الأشخاص في مقابر جماعية، في مناظر مماثلة لتلك التي شوهدت في نيويورك في وقت سابق من هذا العام.

كتب المؤرخ الموسوعي الشهير ابن خلدون، الذي بدوره فقد والديه بسبب الطاعون، قائلا:

“وهذا ما نزل بالعمران شرقا وغربا […] من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها…

وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر [العالم] بالإجابة…”.

بحلول نهاية الجائحة، توفي 200 ألف شخص في القاهرة وحدها، أي تقريبا أكثر من إجمالي عدد سكان كل المدن المسيحية في ذلك الوقت. كان حجم الدمار كبيرا لدرجة أن العديد من المدن في كل من الغرب والشرق لم تسترد عدد سكانها قبل الطاعون حتى أواخر القرن السادس عشر.

اليأس

ليس من الصعب تخيل الرعب واليأس اللذين سادا المجتمع أمام هذه المشاهد المروعة، والتي بدت وكأنها تنزل على البشرية من العدم. لم توفر أي من الممارسات المعتادة لتجنب المرض وعلاجه -مثل الاستحمام- أي دفاع ضد الطاعون. وقد وجدت مهنة الطب نفسها عاجزة تماما أمام انتشار المرض.

ساعد الطاعون أيضا في فضح مؤسسات الكنيسة، التي ظهر أن حمايتها الروحية غير فعالة نهائيا أمام كارثة اعتبرها الكثيرون علامة واضحة على غضب الرب.

كانت هناك العديد من حالات هروب الكهنة المحليين فرارا من الطاعون، تاركين أتباعهم دون رعاية، وحرموهم حتى من طقوسهم الأخيرة. أثار هذا حالة من عدم الثقة والشك على نطاق واسع في الكنيسة القائمة -رغم أن ذلك لم يمتد إلى المسيحية أو الدين ككل- وأدى إلى ظهور العديد من الحركات الدينية الجديدة.

كانت إحدى تلك الحركات هي حركة طوائف الجلادين، والتي انتشرت في جميع أنحاء أوروبا وكانت قوية بشكل خاص في البلدان الناطقة بالألمانية والهولندية.

كان الجلادون يتجولون من مدينة إلى أخرى في مجموعات من 50 إلى 300 شخص لمدة 33 يوما وثلث اليوم، مما يرمز إلى زمن المسيح على الأرض. خلال تلك الفترة كان يمنع عليهم الكلام أو الاغتسال أو النوم في أسرة ناعمة. وعند وصولهم إلى بلدة ما كانوا يركعون على الأرض ويجلدون أنفسهم للتكفير عن خطايا البشرية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى وضع حد للطاعون.

في المراحل الأولى لتلك الحركة كان السكان غالبا ما يستقبلون جماعة الجلادين بالترحاب، إذ رأوا أنهم يقدمون دفاعا روحيا حقيقيا ضد الطاعون، على عكس الكنيسة القائمة، التي فقدت مصداقيتها على نطاق واسع. لكن ومع مرور الوقت، بدأت الحركة في الانقسام على أسس طبقية.

بفعل تأثير الجماهير الفقيرة التي ملأت صفوفها، بدأت الحركة تتخذ شكل طائفة ثورية. اعتقد العديد من الجلادين أن الإمبراطور القديم، فريدريك بربروسا، سيُبعث من جديد، وسيطرد رجال الدين، ويجبر الأغنياء على مساعدة الفقراء، وبعد ذلك سيعود المسيح نفسه إلى الأرض.

أثارت هذه الأفكار في البداية نفور النبلاء، ثم البرجوازيين، وفي النهاية حتى الفلاحين الميسورين. وبمرور الوقت تقلصت الحركة إلى أفقر فئات المجتمع وأكثرها حرمانا. وبمجرد أن صاروا معزولين، قامت الدولة بسحق من تبقى منهم.

ومن بين نتائج اليأس الذي نشأ أثناء الطاعون كانت موجة المذابح ضد اليهود في جميع أنحاء أوروبا، والتي اتخذت أبعادا مروعة في تلك الفترة. ففي العديد من الأماكن، ولا سيما المدن، تم اتهام اليهود بأنهم من يقفون وراء نشر الطاعون أو تسميم الآبار. وتعرض الآلاف منهم للقتل نتيجة لذلك.

اتخذت الكنيسة والسلطات الإقطاعية في الواقع بعض الإجراءات الهزيلة لحماية اليهود، ورفضت الادعاءات ضدهم. لكن ذلك لم يفعل الكثير لوقف موجة إراقة الدماء. وفي النهاية أدى ذلك إلى حدوث هجرة كبيرة من طرف اليهود، الذين فروا من الاضطهاد إلى الشرق، وبولندا على وجه الخصوص، حيث دعاهم الملك كازيمير الثالث للاستقرار.

الأزمة الاقتصادية

بالإضافة إلى الأزمة النفسية والأخلاقية العميقة التي سببها الطاعون، فقد شهد الاقتصاد الإقطاعي حالة من الشلل. تسبب ذلك في أزمة شديدة وطويلة الأمد للطبقة السائدة كانت لها تداعيات مهمة.

يمكن العثور على مؤشر جيد لحجم الأزمة في إنجلترا، حيث وصل الطاعون لأول مرة في سبتمبر 1348. ففي ضيعة كوكسهام، بالقرب من أكسفورد، المملوكة لكلية ميرتون المرموقة، ترك الانخفاض الهائل في عدد السكان أراضي الكلية دون من يشتغل فيها. وقد تسبب ذلك في انخفاض كبير في الإيجارات، مما أثر على دخل الضيعة. وفي الوقت نفسه كان لا بد من استقطاب عمال مأجورين للاشتغال في الضيعة مقابل أجور عالية.

أدت هذه الضربة المزدوجة -في سياق انخفاض الطلب وانخفاض أسعار المحاصيل الغذائية الأساسية مثل القمح- إلى انخفاض “أرباح” الضيعة بشكل دائم. تراجعت الأرباح من 40 جنيها إسترلينيا في المتوسط ​​سنويا، سنة 1349، إلى أقل من 11 جنيها إسترلينيا ما بين 1354 و1355، وهي السنة الأولى بعد الطاعون التي تسجل أي أرباح على الإطلاق.

وبشكل عام، يُقدر أن دخل الأرستقراطية الإقطاعية في جميع أنحاء إنجلترا قد انخفض بنسبة تزيد عن 20٪ بين عامي 1347 و1353. وإلى جانب انهيار نظام الضيعة، فقد تسبب ارتفاع معدل الوفيات كذلك في حرمان العديد من العائلات الإقطاعية من الورثة الذكور، مما كان يعني ببساطة اختفاء العديد من العائلات العظيمة سابقا.

ترافقت الأزمة العميقة للطبقة السائدة مع بدايات ما أصبح يعرف باسم “العصر الذهبي للعمال”. في عام 1349 تضاعفت الأجور في العديد من المناطق. ففي ضيعة كوكسهام، عام 1350، صار عامل الحرث يحصل على 10 شلن، و 06 بنسات ، مقابل العمل الذي كان سيكسبه 02 شلن فقط عام 1347. حتى أن العمال المياومين استمتعوا بوجبات غذاء من “فطائر اللحم والجعة ” بالإضافة إلى أجورهم المرتفعة.

لكن لم يكن العمال وحدهم من ربحوا، على افتراض أنهم نجوا من الطاعون؛ بل لقد أدت الأزمة إلى إحداث تغييرات جذرية في ظروف عمل الفلاحين وحقوقهم.

كان توافر الأراضي على نطاق واسع وانخفاض الإيجارات يعني تزايد قدرة الفلاحين على التنقل أكثر مما كان عليه الحال في أي وقت مضى. أصبح من الممكن للفلاحين أن “يختاروا” بشكل فعال، تاركين أسيادهم السابقين وراءهم لصالح أسياد آخرين يعرضون إيجارات أقل وقيودا أقل. صارت القنانة في هذا السياق مستحيلة وعبثية.

الردة الرجعية والثورة

تصرفت الطبقة السائدة بسرعة من أجل محاولة العودة إلى “الحياة الطبيعية” القديمة. في عام 1349، طرح إدوارد الثالث قانون عمل، أراد أن يحدد الأجور عند مستوى ما قبل 1348، لكن دون جدوى.

ولما كانت الكنيسة تعلم جيدا مصلحتها فقد انضمت إلى الحملة الصليبية التي شنها الملاك ضد فطائر العمال وجعتهم. ففي عام 1350 أصدر رئيس أساقفة كانتربري منشوراشجب فيه “جشع أولئك الذين يفرضون أجورا إضافية على الخدمات العادية”.

كان من الحتمي أن يؤدي مثل هذا التناقض الواضح للمصالح بين السادة الإقطاعيين وبين جماهير الفلاحين العاديين، إلى إشعال مواجهات عنيفة. كان الفلاحون والعمال قد بدأوا يدركون إلى حد كبير أن السادة لم يكونوا أكثر من طفيليات موجودة فقط لاستهلاك ما ينتجونه هم. ولم تكن لديهم أي نية في التخلي عن المكاسب التي حققوها خلال سنوات الطاعون.

ومن ناحية أخرى لم يكن في مقدور الطبقة السائدة أن تتسامح مع هذا الوضع. إذ لم يقتصر الأمر على زيادة الأجور وانخفاض الإيجارات، مما أدى إلى تراجع مداخيلهم، بل إن رفع العديد من القيود وإلغاء العمل بالسخرة عن أكتاف الفلاحين، لم يكن يهدد فقط مداخيل ضيعتهم، بل صار يهدد بقلب كامل النظام الاجتماعي الذي كانوا يقفون في قمته.

وعلى مدى عقود حاول النبلاء باستياء استعادة المكاسب التي حققها الناس العاديون وإعادة إحياء القنانة. ففي إنجلترا، عام 1377، فرض الملك ضريبة الرؤوس سيئة السمعة، والتي كانت ضريبة على كل شخص بالغ في المملكة.

تم رفع قيمة هذه الضريبة مرتين، في عامي 1378 و1381، مما وضع عبئا ثقيلا على كاهل عائلات الفلاحين، لدرجة أن العديد منهم اتهموا الملك بمحاولة استعادة القنانة. وقد أدان الواعظ الراديكالي، جون ويكليف، هذه الضريبة ، قائلا: “بهذه الطريقة يأكل السادة لحم الفقراء ويشربون دمهم”.

في عام 1381، رفض الفلاحون في منطقة إسكس دفع الضريبة، مما أدى إلى اندلاع ثورة الفلاحين. وقد قاد فلاح ثري، يُدعى وات تايلر، جيشا نحو لندن داعيا إلى “قتل جميع المحامين وخدام الملك”.

كما دعا زعيم آخر للثورة، وهو كاهن مطرود، يُدعى جون بول، إلى “أن يكون كل شيء مشتركا، وأن نكون جميعنا متحدين معا، وألا يكون السادة أناسا أعظم منا”. وخطب في المتمردين قائلا:

“لما كان آدم يحرث الأرض وكانت حواء تغزل،

من كان السيد آنذاك؟”.

هذه الروح الداعية للمساواة ستتبناها فئة الحفارين (Diggers) خلال الثورة الإنجليزية، والذين كانوا الفئة الأكثر راديكالية بين قوات كرومويل.

عندما وصل المتمردون إلى نهر التايمز في ساوثوارك، أنزلت جماهير لندن الجسر وساعدتهم على الاستيلاء على المدينة. كان ذلك مثالا مبكرا على التحالف بين البرجوازية والفلاحين والذي لعب دورا حيويا في الثورتين الإنجليزية والفرنسية. وبعد أن استولى المتمردون على برج لندن قطعوا رأس رئيس أساقفة كانتربري المكروه.

ثم شرع المتمردون في الاستيلاء على إقامات وقصور النبلاء الفخمة على طول شارع فليت. لكنهم لم يسرقوا شيئا تقريبا من الثروة الهائلة لأعدائهم، معلنين أنهم “مكافحون من أجل الحقيقة والعدالة، لا لصوصا ونهابين”. وبدلا من ذلك عملوا على إلقاء أثاث ومجوهرات الطبقة السائدة في النهر أو أحرقوها.

اضطر الملك ريتشارد الثاني إلى الإذعان لمطالب المتمردين، ووعد بإنهاء القنانة، وبتوفير الأرض بإيجار رخيص، وبحرية التجارة. لكن بمجرد أن شعر المتمردون بالرضا وكانوا في طريقهم إلى منازلهم قام هو بذبحهم.

إلا أنه وعلى الرغم من أن الانتفاضة نفسها قد سحقت في النهاية، فإن القنانة لم تعد أبدا إلى إنجلترا. ولم يتم تحصيل أي ضريبة للرؤوس مرة أخرى في إنجلترا، حتى محاولة تاتشر المشؤومة، سنة 1989، مع نتائج مماثلة.

الانتقال

لا يمكن التقليل من أهمية ثورة الفلاحين. فقد أدت نهاية القنانة بشكل فعال إلى نهاية الإقطاع. كان النظام القديم يحتضر، لكن النظام الجديد لم يولد بعد. كانت تلك فترة انتقالية. “زمن الوحوش”، على حد تعبير غرامشي. ولم يشهد التاريخ سوى القليل من الأحداث المماثلة في وحشيتها للطاعون.

تلك التطورات التي كثفها وسرع وتيرتها الطاعون استمرت في تغيير المجتمع طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. صارت فترة أواخر العصور الوسطى حقبة الفلاحين الأثرياء المستقلين. وفي غضون ذلك استمر النبلاء الإقطاعيون البائدون في استنزاف أنفسهم في حروب الوردتين.

تدريجيا تم استبدال السلالات الإقطاعية القديمة بفئة جديدة من الملاك، الذين كانوا غالبا من التجار الذين اشتروا الانتماء إلى طبقة النبلاء، والذين كانوا أكثر تركيزا على جني الأموال من الاهتمام بالفروسية الهزلية لأسلافهم.

وعلى مستوى الدولة استولت طبقة صاعدة من البورجوازيين المتعلمين والمحامين، إلخ، على الوظائف البيروقراطية والدينية المختلفة، التي قبل الطاعون كان يتم تنفيذها إلى حد كبير من قبل الكهنة.

نمت هذه العلاقة الجديدة بين النظام الملكي الإقطاعي وبين البرجوازية التي تعيش في المدن وصارت أقوى، حيث أصبحت الأنظمة الملكية أكثر مركزية واعتمادا على أموال التجار الأثرياء، مثل عائلة دي لا بول في هال.

أدت هذه التغييرات، التي استمرت تدريجيا، إلى ميلاد النظام الملكي المطلق، في عهد تيودور. وقد لعب ذلك دورا مهما في تطوير الرأسمالية.

في القرن السادس عشر، بدأ السادة في الانتقام من الفلاحين الأحرار والعمال في إنجلترا. لكنه لم تكن هناك عودة إلى النظام القديم لعام 1347.

وبدلا من أن تقوم الطبقة الجديدة من ملاك الأراضي على إجبار الفلاحين على العمل لصالحها، أجبرتهم على ترك أراضيهم، وحولت حقولهم إلى مراع يعمل فيها عمال مأجورون لإنتاج الصوف.

أدت هذه الثورة العنيفة في الريف إلى ولادة الزراعة الرأسمالية. وأدت، في الوقت نفسه، إلى خلق طبقة من الفقراء الذين لا يملكون شيئا، والذين تم دفعهم في النهاية إلى ورشات ومصانع الثورة الصناعية ليشكلوا الطبقة العاملة الحديثة.

اليوم

أوجه التشابه بين فترة الطاعون واليوم مدهشة. لحسن الحظ فإن التأثير المميت لجائحة كوفيد 19، على الرغم من أنه مروع، لم يكن كبيرا مثل تأثير الطاعون. لكن كلا الجائحتين ضربتا أنظمة اجتماعية وصلت إلى حدودها، وفتحت أزمات تهدد بتقويض النظام القائم.

لم يتسبب الطاعون في أزمة الإقطاع، التي كانت قد بدأت قبل عقود من خروج اليرسينيا الطاعونية من صحراء غوبي. وبالمثل فإن كوفيد 19 ليس السبب في الأزمة الحالية للرأسمالية.

ومع ذلك فقد شكلت كلتا الجائحتين صدمات خارجية هائلة، أدت إلى فضح وتكثيف جميع التناقضات التي كانت تتطور تحت سطح المجتمع. كلتاهما كانتا “حادثتين” تاريخيتين أعطتا تعبيرا قويا للضرورة التاريخية.

لكن أوجه التشابه لا تنتهي عند هذا الحد. فكما في القرن الرابع عشر، ستقوم الطبقة السائدة اليوم بكل ما في وسعها لبناء انتعاشها على كاهل الطبقة العاملة، وذلك من خلال التقشف والقمع. لكن وكما حدث في القرن الرابع عشر، ستكون الانتفاضات الجماهيرية ضد هذه الهجمة حتمية أيضا.

لن تكون هناك أية عودة إلى الوضع “الطبيعي”. وكما من قبل، النظام القديم يحتضر ويجر البشرية معه. لكن اليوم هناك نظام جديد جاهز ليحل محل القديم، وهو يكافح من أجل أن يولد. النضالات التي تندلع اليوم -مثل نضال حركة حياة السود مهمة- هي الهزات الأولى للنهوض الثوري للطبقة العاملة.

عمال اليوم هم ورثة الفلاحين المتمردين عام 1381، الذين حصلوا على حريتهم التي انتزعت من الأجيال اللاحقة. إننا نرث تقاليد نضالهم في صراعنا ضد رأس المال، من أجل تحقيق رؤية جون بول بألا يكون هناك أسياد، وأن يعيش الجميع أحرارا ومتساوين. وهذه المرة سننجز المهمة.

12 أكتوبر/تشرين الأول 2020

ترجم عن النص الأصلي:

The Black Death: the pandemic that changed the world